فصل: فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَأَحْكَامِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِيمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَشُرُوطِ اعْتِبَارِهَا:

وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تَنْعَقِدُ بِمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِلَايَاتُ مَعَ الْحُضُورِ بِاللَّفْظِ مُشَافَهَةً وَمَعَ الْغَيْبَةِ مُرَاسَلَةً وَمُكَاتَبَةً وَلَكِنْ لابد مَعَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ شَوَاهِدِ الْحَالِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْلَى وَأَهْلِ عَمَلِهِ.
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ.
فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ قَلَّدْتُكَ وَوَلَّيْتُكَ وَاسْتَخْلَفْتُكَ وَاسْتَنَبْتُكَ، فَإِذَا أَتَى بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ انْعَقَدَتْ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْوِلَايَاتِ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى قَرِينَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لَا شَرْطًا.
فَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ وَعَوَّلَتْ عَلَيْكَ وَرَدَدْتُ إلَيْكَ وَجَعَلْتُ إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إلَيْكَ وَوَكَّلْتُ إلَيْكَ وَأَسْنَدْتُ إلَيْكَ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ تُضْعِفُ فِي الْوِلَايَةِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ مَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ فَتَصِيرُ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ مِثْلَ قَوْلِهِ فَانْظُرْ فِيمَا وَكَّلَتْهُ إلَيْكَ وَاحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْكَ فَتَصِيرُ الْوِلَايَةُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِنَايَةِ مُنْعَقِدَةً، ثُمَّ تَمَامُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِ الْمُوَلِّي، فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُشَافَهَةً فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُرَاسَلَةً أَوْ مُكَاتَبَةً جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّرَاخِي.
وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْقَبُولِ بِالشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ؛ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَهُ كَالنُّطْقِ وَأَبَاهُ آخَرُونَ حَتَّى يَكُونَ نُطُقًا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ قَبُولُهَا.
وَيَكُونُ تَمَامُ الْوِلَايَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ مُعْتَبَرًا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ الْمَوْلَى لِلْمَوْلَى بِأَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا تِلْكَ الْوِلَايَةُ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ، فَلَوْ عَرَفَهَا بَعْدَ التَّقْلِيدَ اسْتَأْنَفَهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَوِّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُوَلَّى بِمَا عَلَيْهِ الْمُوَلِّي مِنْ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْوِلَايَةِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُسْتَحِقًّا لَهَا وَأَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَهَا وَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْإِنَابَةِ فِيهَا إلَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي قَبُولِ الْمُوَلَّى وَجَوَازِ نَظَرِهِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي عَقْدِ تَقْلِيدِهِ وَوِلَايَتِهِ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ يُرَاعَى فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدَةُ بِالنَّظَرِ.
وَإِنَّمَا يُرَاعَى انْتِشَارُهَا بِتَتَابُعِ الْخَبَرِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا تَضْمَنَّهُ التَّقْلِيدُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَوْ إمَارَةِ الْبِلَادِ أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ هَذِهِ شُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ تَقْلِيدٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى تَسْمِيَةِ مَا تَضَمَّنَتْ لِيُعْلَمَ عَلَى أَيِّ نَظَرٍ عُقِدَتْ فَإِنْ جُهِلَ فَسَدَتْ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: ذِكْرُ تَقْلِيدِ الْبَلَدِ الَّذِي عُقِدَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِيُعْرَفَ بِهِ الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِيهِ، وَلَا تَصِحُّ الْوِلَايَةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ تَمَّ تَقْلِيدُ الْوِلَايَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشُّرُوطِ وَاحْتَاجَ فِي لُزُومِ النَّظَرِ إلَى شَرْطٍ زَائِدٍ عَلَى شُرُوطِ الْعَقْدِ وَهُوَ إشَاعَةُ تَقْلِيدِ الْمُوَلَّى فِي أَهْلِ عَمَلِهِ لِيَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ وَيَنْقَادُوا إلَى حُكْمِهِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الطَّاعَةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ، فَإِذَا صَحَّتْ عَقْدًا وَلُزُومًا بِمَا وَصَفْنَا صَحَّ فِيهَا نَظَرُ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى كَالْوَكَالَةِ لِأَنَّهُمَا مَعًا اسْتِنَابَةٌ وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَقَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلَّى وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي وَكَانَ لِلْمُوَلِّي عَزْلُهُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ.
وَلِلْمُوَلَّى عَزْلُ نَفْسِهِ عَنْهَا إذَا شَاءَ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُوَلِّي أَنْ يَعْزِلَهُ إلَّا بِعُذْرٍ، وَأَنْ لَا يَعْتَزِلَ الْمُوَلَّى إلَّا مِنْ عُذْرٍ لِمَا فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا عَزَلَ أَوْ اعْتَزَلَ وَجَبَ إظْهَارُ الْعَزْلِ كَمَا وَجَبَ إظْهَارُ التَّقْلِيدِ حَتَّى لَا يَقْدَمُ عَلَى إنْفَاذِ حُكْمٍ وَلَا يَغْتَرُّ بِالتَّرَافُعِ إلَيْهِ خَصْمٌ، فَإِنْ حَكَمَ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَدْ عَرَفَ عَزْلَهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَزْلِهِ كَانَ فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي عُقُودِ الْوَكِيلِ.

.فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَأَحْكَامِهَا:

وَلَا تَخْلُو وِلَايَةُ الْقَاضِي مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: (فَصْلٌ) فِي الْمُنَازَعَاتِ وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ وَيُرَاعَى فِيهِ الْجَوَازُ أَوْ إجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُجُوبُ.
وَالثَّانِي اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ مَطَلَ بِهَا وَإِيصَالُهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إقْرَارٌ، أَوْ بَيِّنَةٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ فِيهَا بِعِلْمِهِ؛ فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَصَحُّ قَوْلَيْهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعِلْمِهِ فِيمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَهَا.
وَالثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعَ التَّصَرُّفِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَتَصْحِيحًا لِأَحْكَامِ الْعُقُودِ فِيهَا.
وَالرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الْأَوْقَاتِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا وَالْقَبْضِ عَلَيْهَا وَصَرْفِهَا فِي سَبِيلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ فِيهَا رَاعَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْخَاصِّ فِيهَا إنْ عَمَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعُمُومِ وَإِنْ خُصَّتْ.
وَالْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شُرُوطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَحْظُرْهُ.
وَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيِّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا بِالْإِقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْصُوفِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا أَنْ يَتَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّوهَا بِالِاجْتِهَادِ وَيَمْلِكُوا بِالْإِقْبَاضِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَصِيٌّ رَاعَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ.
وَالسَّادِسُ: تَزْوِيجُ الْأَيَامَى بِالْأَكْفَاءِ إذَا عَدِمْنَ الْأَوْلِيَاءَ وَدُعِينَ إلَى النِّكَاحِ، وَلَا يَجْعَلُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حُقُوقِ وِلَايَتِهِ لِتَجْوِيزِهِ تُفْرَدُ الْأَيِّمُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ.
وَالسَّابِعُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ طَالِبٍ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَسْتَوْفِيهَا مَعًا إلَّا بِخَصْمٍ مَطَالِبِ.
وَالثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ مِنْ الْكَفِّ عَنْ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَفْنِيَةِ وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ مُسْتَعْدٍ، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْتَعْدِي وَغَيْرُ الْمُسْتَعْدِي فَكَانَ تَفَرُّدُ الْوِلَايَةِ بِهَا أَخَصَّ.
وَالتَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ وَاخْتِيَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ فِي إقْرَارِهِمْ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُهُورِ السَّلَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَصَرْفِهِمْ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ مَعَ ظُهُورِ الْجُرْحِ وَالْخِيَانَةِ.
وَمَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ عَمَّا يُعَانِيهِ كَانَ مُوَلِّيهِ بِالْخِيَارِ مِنْ أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَكْفَى، وَإِمَّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ عَلَيْهِ أَنْفَذَ وَأَمْضَى.
وَالْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمَشْرُوفِ وَالشَّرِيفِ، وَلَا يَتَّبِعْ هَوَاهُ فِي تَقْصِيرِ الْمُحِقِّ أَوْ مُمَايَلَةِ مُبْطِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.
وَقَدْ اسْتَوْفَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ شُرُوطَ الْقَضَاءِ وَبَيَّنَ أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ فَقَالَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ؛ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا؛ وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ؛ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ؛ وَقِسْ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا، وَاجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْعَمَى؛ وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ الْأَيْمَانِ وَدَرَأَ بِالْبَيِّنَاتِ.
وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَفُّفَ بِالْخُصُومِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يُعَظِّمُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، وَالسَّلَامُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا الْعَهْدِ خَلَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا خُلُوُّهُ مِنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِلَايَةُ: وَالثَّانِي اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَالَةُ الْبَاطِنِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ.
قِيلَ: أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّقْلِيدَ تَقَدَّمَهُ لَفْظًا وَجُعِلَ الْعَهْدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوِصَايَةِ وَالْأَحْكَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَلْفَاظَ الْعَهْدِ تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ التَّقْلِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ، وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ.
فَصَارَ فَحْوَى هَذِهِ الْأَوَامِرِ مَعَ شَوَاهِدِ الْحَالِ مُغْنِيًا عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ فَذَكَرَهُ إخْبَارًا عَنْ اعْتِقَادِهِ فِيهِ لَا أَمْرًا بِهِ، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ عُدُولٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ جُرْحٌ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَاضِي وَإِنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ مَصْرِفَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْجُيُوشِ، فَأَمَّا أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ فَإِنْ اُخْتُصَّتْ بِنَاظِرٍ خَرَجَتْ عَنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْدَبْ لَهَا نَاظِرٌ فَقَدْ قِيلَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ فَيَقْبِضُهَا مِنْ أَهْلِهَا وَيَصْرِفُهَا فِي مُسْتَحَقِّيهَا، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ سَمَّاهُ لَهَا.
وَقِيلَ لَا تَدْخُلُ فِي وِلَايَتِهِ وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ التَّعَرُّضِ لَهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إمَامَةِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى خُصُوصِهَا وَمَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ فِي بَعْضِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ أَوْ فِي الْحُكْمِ بِإِقْرَارٍ دُونَ الْبَيِّنَةِ أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْمَنَاكِحِ أَوْ فِي مُقَدَّرٍ بِنِصَابٍ فَيَصِحُّ هَذَا التَّقْلِيدُ وَلَا يَصِحُّ لِلْمُوَلِّي أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فَصَحَّتْ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ.